انتشار القوّات المسلّحة السورية: طريق اللاعودة
انتشار القوّات المسلّحة السورية: طريق اللاعودة
11 كانون الثاني/يناير 2021
محسن المصطفى

تتوافق استراتيجية انتشار القوّات المسلّحة السورية مع التهديد الاستراتيجي الناشئ وتقوّض العودة إلى ثكناتها.

منذ بدء الأحداث الجارية في سورية عام 2011، خضعت القوّات المسلّحة السورية لتحوّلات استراتيجية وتكتية جمّة، من ضمنها انتشار وحدات القوّات البرية – أي الجيش – بحد ذاتها. على الرغم من مرور سنوات على نجاح قوّات النظام السياسي الحاكم – بدعم روسي وإيراني – في انتزاع مساحات شاسعة من يدّ خصومها العسكريين، إلا أن الجيش ما زال منتشرًا حتى في تلك المناطق البعيدة عن خطوط القتال، ويبدو أن قيادة النظام السياسي الحاكم تريد فرض استراتيجية انتشار جديدة للجيش تتوافق مع التهديد الناشئ المتمثل ببُؤر نزاع مسلّح، أو حتى انتفاضات شعبية ضدّ النظام السياسي الحاكم. إلا أن هذه الاستراتيجية تملك مخاطر وتحديات عدّة خصوصًا أنها تلبي رغبة قيادة النظام السياسي دون سواه، كما تقوّض الجهود الدولية الرامية لفرض حل سياسي وإعادة الاستقرار.

أخطاء في الانتشار بعد 2011

لعب التهديد الاستراتيجي الذي فرضه وجود إسرائيل على الحدود الجنوبية الغربية للبلاد، وقرب العاصمة دمشق منها، الدور الأكبر في كيفية انتشار الجيش في الجنوب على مر عقود من الزمن. زادّ هذا الانتشار عقب وصول الرئيس السابق حافظ الأسد لسدّة الحكم وتأسيسه وحدات عسكرية وأمنية نوعية هدفها الأساسي تحصين النظام السياسي الحاكم من أي محاولات انقلابية، في حين تم الاكتفاء بنشر أفواج من القوّات الخاصة وبعض الثكنات في باقي مناطق الداخل، باعتبار هذه الوحدات قادرة على مواجهة الأحداث التي قد تندلع فيها. إلا أن هذا الاعتبار فشل بعد عام 2011، وهو ما استدعى إرسال وحدات مختلفة نحو الشمال والشرق من أجل إخماد الانتفاضة وبالتالي ابتعاد تلك الوحدات عن مناطق انتشارها التاريخية.

بطريقة غير مفهومة في البداية، لم ترسل القيادة العسكرية وحدات بعينها بقوامها الكامل نحو مناطق العمليات الجديدة، بل اتبعت طريقة "التجميع"، أي تجميع وحدات عسكرية مختلفة التبعية للفرق أو الألوية مع عدد عناصر أمنية تحت إمرة ضابط موثوق الولاء. والسبب وراء اتباع هذه الطريقة هو منع أي عملية انشقاق جماعية، وكان هذا الأسلوب ناجعًا، إذ اقتصرت الانشقاقات على حالات فردية بمعظمها.

بعد التجميع

بالمقابل خلقت هذه الطريقة وحدات عسكرية هجينة غير متناسقة وميليشيات متعددة الولاءات أدّت لخسائر جسيمة في تلك الوحدات نتيجة ضعف وضياع تسلسل القيادة والأوامر فيها، وبالتالي خلق حالة من الفوضى التي أثرت سلبًا على كفاءة العمليات العسكرية، وبدأت تظهر ملامح وحدات وفرق هجينة في محاولة لإعادة ترتيب الوحدات على أساس توزعها الجغرافي لتتماشى مع الوضع القائم، وتم الانسحاب كيفًا أو قسرًا من عدة مواقع في الأرياف لصالح تجميع هذه القوّات ضمن مراكز عسكرية ذات طابع استراتيجي أو تكتي، حيث عملت هذه المراكز على دعم بعضها البعض ناريًا، بما يشبه مظلة قصف نارية، واستمرت هذه التكتيات المٌتّبعة حتى انهيارها في ربيع عام 2015، لتنتهي كليًا مع التدخل العسكري الروسي المباشر لصالح النظام السياسي الحاكم.

انتشار القوال البرية بعد عام 2011

بالتزامن مع التدخل الروسي في نهاية شهر أيلول/سبتمبر عام 2015 تم تأسيس الفيلق الرابع، إلا أن هذا الفيلق لم يقدم النتائج المرجّوة لروسيا بالرغم من الدعم الذي تلقاه، ليتم لاحقًا تأسيس الفيلق الخامس في شهر تشرين الثاني/نوفمبر عام 2016، حيث عملت روسيا على تأسيس هذا الفيلق برؤيتها الخاصة، مع حوافز ورواتب جيدة نسبيًا ودعمه بالسلاح. لقد تم تأسيس الفيلق دون الالتزام بالتشكيل العسكري المعروف لهيكل الفيلق، نتيجة النقص في الملاك العددي والتسليحي. وعلى صعيد مواز، رعت روسيا ودمجت وحدات هجينة تتألف من عناصر محسوبة على الأمن وعناصر من الجيش بالإضافة لعناصر من الميليشيات المحلية المحسوبة على إيران، حتى وصل بها الأمر لدمج فصائل المعارضة الخاضعة للتسوية ضمن الفيلق الخامس، حيث ساهم كل ما سبق بأن تصبح القوّات المسلّحة الرسمية مجزأة وغير موثوقة وذات ولاءات متعددة.

الانتشار الحالي

حاليًا تكاد تنتشر وحدات الجيش في كافة المدن والبلدات الموجودة تحت سيطرتها منذ سنوات ولم تنسحب منها، وهو ما ينذر بأنه لا توجد نيّة لانسحاب الجيش منها. بغض النظر عن طبيعة الحل السياسي فإن النظام السياسي الحاكم لا يريد أن يعيد الخطأ السابق في كيفية انتشار قواّته لمجابهة اضطرابات داخلية، وبالتالي تبني استراتيجية جديدة لانتشار القوّات البرية، تقوم على نشر وحدات في كل منطقة يتناسب حجمها طردًا مع كثافة هذه المناطق السكنية.

انتشار القوات البرية عام 2021

إن استراتيجية انتشار القوّات المسلّحة السورية تُحَدّد أساسًا من قبل مجلس الدفاع العسكري الذي يرأسه القائد العام/رئيس الجمهورية دون أي تدخل من قبل مؤسسات الدولة المدنية. وضمن هذه الرؤية بات من شبه المستحيل عودة الجيش لأماكن تمركزه السابقة، نظرًا لتغيُّر التهديد الاستراتيجي من وجهة نظر قيادة الدولة نحو الداخل لا الخارج، بالإضافة إلى أن البُنية الثقيلة للجيش لم تعد كما كانت نتيجة الخسائر الجسيمة التي تعرض لها، وكذلك انعدام القدرة المالية للحكومة التي لا يُمكّنها من إعادة ما خسره. بالتالي إن كل استثمار مستقبلي في لوجستيات وعتاد الجيش سيكون متوافقًا مع مفهوم التهديد الاستراتيجي الجديد ومخصص للأدوات التي تمكنه من قمع أي انتفاضة مقبلة، ويقود ما سبق إلى استمرار حالة عدم الاستقرار، والدفع باتجاه عسكرة المجتمع، وتقويض فرص عودة اللاجئين، خصوصًا أن خطوات الحل السياسي المفترض لم تناقش إمكانية عودة الجيش إلى ثكناته التي أنطلق منها لقمع الانتفاضة الشعبية قبل عدّة سنوات.



محسن المصطفى باحث مساعد يركز على المؤسسة العسكرية السورية في برنامج العلاقات العسكرية المدنية في الدول العربية في مركز مالكوم كيركارنيغي للشرق الأوسط.


 
آخر التغريدات


تواصل معنا